القضاء علي ثورة الراوندية
الخليفة المنصور يحارب الراوندية الذين جعلوه إلها!
كان الخليفة الثاني للخلافة العباسية أبوجعفر المنصور (136158 هـ) من أهم وأبرز الشخصيات التي ظهرت في التاريخ العباسي، بل يعده المؤرخون المؤسس الحقيقي للدولة العباسية وقد ولد سنة 95ه في قرية الحميمية بالشام، وقد تعلم علي يد كبار علماء بني هاشم، فنشأ فصيحا.. فقيها.. محبا للشعر والأدب، ومحبا للأسفار.
وعندما تولي الخلافة بعد أخيه (أبوالعباس) تعهد أن يوصي الناس بالعدل، ويحقق للناس ما يصبون إليه من خلال الشريعة الغراء وسنة الرسول الخاتم.
وما أكثر ما واجهه من مشكلات، متمثلة في الخارجين علي الدولة من أمثال عمه الذي ثار عليه (عبدالله بن علي).. كما نجح في القضاء علي ثورة محمد النفس الذكية، والقضاء علي أبي مسلم الخراساني، وأيضا القضاء علي هذه الحركة الغريبة التي ظهرت في سماء الحياة العباسية وألَّهت الخليفة، واعتقدت أنه هو الذي يطعمهم ويسقيهم! كما قضي علي حركات الخوارج.
* * *
والراوندية حركة غريبة ظهرت في أجواء الحياة العباسية (141هـ 758م).. وسميت الراوندية نسبة إلي قرية (راوند) القريبة من أصفهان.. وكانوا يؤمنون بنتائج الأرواح، ثم أعلنوا أن أبا جعفر المنصور هو الإله الذي يرزقهم ويطعمهم.
واتجه ستمائة شخص منهم نحو عاصمة الخلافة العباسية في ذلك الوقت (الهاشمية) وأعلنوا ثورة عارمة علي الخليفة المنصور، الذي لم يقرهم علي أفكارهم، وطالبهم بالرجوع عن هذه الأفكار، فما هو إلا مجرد خليفة، وعبد من عباد الله، وليس إلها.
ومن هنا وجد هؤلاء الراوندية أن الخليفة لا يستحق التقديس، فهم قد رفعوه إلي مرتبة الإلهية، وهو يأبي ذلك، فلابد إذن من الثروة عليه، لأنه لا يستحق هذا الشرف العظيم.. ومن هنا فقد قرروا إعلان الحرب عليه.. وتوجهوا نحو قصره بالهاشمية، ومن هنا فقد وقف الخليفة موقفا في غاية الشجاعة عندما امتطي صهوة حصانه، وأمسك سبغه، وخرج من قصره لمواجهة هؤلاء العصاة المتمردين.. وما كاد الناس يرون شجاعة أمير المؤمنين وهو ممسكا بسيفه ويقاتل هؤلاء المتمردين حتي انضموا إليه، وأخذوا يحاربون بجانبه.
* * *
ووسط لهيب المعركة شاهد الخليفة أحد الفرسان الملثمين، وقد اقترب من الخليفة وأخذ يقاتل بجانبه، ويقتل كل من يقترب منه، ويحارب بشجاعة منقطعة النظير.
واستطاع الناس فتح أبواب المدينة، ليدخل من يدخل للقتال بجانب الخليفة، وكان من هؤلاء الذين دخلوا المعركة بجانب الخليفة القائد (خازم بن خزيمة).. فقد أقبل في جنده وهو يمتطي صهو جواد قصير الدنب، واستأذن المنصور في قتالهم، حتي القضاء علي هؤلاء المتمردين.
وعرف الخليفة أن هذا الفارس الملثم هو معن بن زائدة وكان يداري وجهه لأنه كان من أعداء الخليفة قبل ذلك، فعفي عنه المنصور لحسن بلائه في هذه المعركة، وولاه حاكما علي اليمن.
* * *
وكان المنصور قد أعد وليمة بعد هذه المعركة، ودعا إليها معن بن زائده، ولما فرغوا من العشاء التفت المنصور إلي عيسي بن علي وقال له:
يا أبا العباس.. أسمعت بأسد الرجال؟
قال: نعم
فقال له المنصور:
لو رأيت اليوم (مَعْنا) علمت أنه من تلك الأساد.
فأجابه معن:
الله يا أمير المؤمنين.. لقد أتيتك وأني لوجل القلب. فلما رأيت ما عندك من الاستهانة بهم، وشدة الإقدام عليهم، رأيت أمرا لم أره من خلق في حرب، نشد ذلك من قلبي، وحملني علي ما رأيت مني.
وأمر المنصور له بعشرة آلاف درهم، وولاه اليمن.
* * *
ولقد فكر المنصور بعد هذه المعركة علي أن تكون هناك عاصمة محصنة ليست كالهاشمية تصلح لأن تكون مقرا للخلافة، وكان وراء هذا الدافع بناء العاصمة العباسية بغداد.
ويقول علي أدهم معلقا علي هذه الأحداث وما انتهت إليه!
وتركت هذه الحادثة في نفس المنصور أثرا قويا وصورة باقية، فقد تشعب به الحديث مرة مع أحد أعوانه فقال له المنصور:
إني أخطأت ثلاث خطيات وقاني الله شرها.
قتلت أبا مسلم وأنا في خرق ومن حولي يقدم طاعته ويؤثرها، ولو هتكت الخرق لذهبت ضياعا.
وخرجت يوم الراوندية ولو أصابني سهم غرب لذهبت ضياعا.
وخرجت إلي الشام ولو اختلف سيفان بالعراق ذهبت الخلافة ضياعا.
وكان معن بن زائدة معروفا بالكرم، فلما ولي اليمن قصده الشاعر (مروان بن أبي حفصه) ومدحه بالقصيدة التونية المشهورة فأعطاه ألف دينار.
وقدم (معن) عقب ذلك فدخل مع المنصور، فتجهم له المنصور ولم يرحب بمقدمه، ودارت بينهما هذه المحاورة:
المنصور:
لقد بلغ أمير المؤمنين عنك شيء لولا مكانك عنده ورأيه فيك لغضب عليك!
معن:
وما ذاك يا أمير المؤمنين؟
المنصور:
إعطاؤك مروان بن أبي حفصة ألف دينار لقوله فيك:
معن بن زائدة الذي زيدت به
شرفا إلي شرف بنو شيبان
إن عد أيام الفعال فإنما
يوماه يوم ندي ويوم طعان
معن:
والله يا أمير المؤمنين ما أعطيته ما بلغك لهذا الشعر.. وإنما أعطيته لقوله:
مازلت (يوم الهاشمية) معلنا
بالسبت دون خليفة الرحمن
فمنعت حوزته وكنت وفاءه
من وقع كل مهند وسنان
المنصور (وقد غلبه الحياء)
إذن إنما أعطيته ما أعطيته لهذا القول!
معن:
نعم يا أمير المؤمنين، والله لولا مخافة الشنعة عندك لأمكنته من مفاتيح بيوت الأموال وأبحته إياها.
المنصور:
لله درك من أعرابي، ما أهون عليك ما يعز علي الرجال وأهل الحرم!
* * *
صورة مشرفة جميلة لرجال عرفوا معني الرجولة في المواقف الصعبة، وعرفوا معني الوفاء عند الوفاء، وعرفوا أن لكل مقام مقال.
المراجع:
صور تاريخية.. علي أدهم
العصر العباسي في العراق والمشرق: أ.د حسن علي حسن، د. عبدالرحمن سالم